يعتبر الشاعر التشادي حسب الله مهدي فضلة من أبرز مبدعي ومثقفي جمهورية تشاد، يعمل حالياً محاضراً في جامعة الملك فيصل في انجامينا . شارك في مسابقة أمير الشعراء التي تنظمها هيئة أبوظبي للثقافة التراث، وخلال ذلك كان هذا الحوار الذي تناولت محاوره ملامح من التاريخ الثقافي والاجتماعي العربي في تشاد وواقع اللغة العربية ومستقبلها، والمنجزات التعليمية والثقافية التي شيدتها دولة الإمارات العربية المتحدة، كما تناول الحوار المسار الشعري العربي في تشاد وأبرز وجوهه .
اقرأ المزيددخلت تشاد قبائل عربية يمنية قبل دخول الإسلام، في المرحلة التي تلت انهيار سد مأرب، ومن أشهر هذه القبائل السيفيون الذين أسّسوا مملكة كانم أشهر مملكة قديمة في تشاد، وتعود أصولهم إلى سيف بن ذي يزن اليمني الحِمْيري . وقد اتسع حُكم هذه المملكة ليشمل أراضي تشاد الحالية وأجزاء واسعة من النيجر ونيجيريا ومنطقة فزان في ليبيا، ويرى بعض المؤرخين أن سلطانها امتد ليشمل مناطق من الحبشة، وعلى رغم أن الإسلام دخل تشاد في القرن الهجري الأول وأصبح دين أغلبية السكان، إلا أنه لم يصبح دين المملكة إلا في القرن الثاني عشر الميلادي في عهد الملك أومي بن جلمي . وقد فقد السيفيون جزءاً من ملامحهم الثقافية واللغوية الأصلية بعد امتزاجهم بالقبائل المحلية ولهجاتها وتقاليدها، عكس القبائل العربية التي دخلت تشاد واستوطنتها وهي تحمل لواء الإسلام، فقد حافظت على تقاليدها العربية وقيمها الإسلامية ولغتها العربية، وتنتسب في الغالب إلى قبيلة جهينة، وبعضها إلى العباس بن عبدالمطلب، ولاتزال سلطنة وَدَّايْ شرق تشاد حتى الآن تكتب في شعارها على مقرها الرسمي عبارة سلطنة وَدّايْ العباسية . أما القبيلة أولاد مالك فهي قبيلة أولاد مالك بن عامر بن حسب الله بن حيماد بن جنيد، وجنيد أبو الراشد هو جد لقبائل تشادية عربية عدة، وكان له ثلاثة أبناء هم: راشد وتفرعت عنه قبيلة أولاد راشد، وعطية وتتفرع عنه قبيلة المحاميد، وحيماد وتتفرع عنه قبائل أولاد مالك وأولاد حسب الله والتعايشة الذين ينحدر منهم الخليفة التعايشي المشهور بأنه خليفة الإمام المهدي في السودان، جدّ السياسي السوادني المعروف الصادق المهدي . أعود إلى قبيلة اولاد مالك لأقول إن أولاد مالك وتتوزع على ثلاث مشيخات هي: مشيخة أولاد مالك في منطقة عراضة في الجهة الشرقية، ومشيخة الجعاتنة في منطقة البطحاء وسط تشاد، ومشيخة أبوقدام . ومن القبائل العربية الكبرى قبيلة أولاد راشد، التي تفرع عنها: الأزيد والزبَدة والزيود، وقبيلة الماهرية وينتمي إليها وزير الخارجية التشادي السبق محمد صالح النظيف . أعود وأوضح أن المحاميد كانت قبيلة واحدة ثم اتسعت وأصبحت تتشكل من مجموعة قبائل لها مكانتها المهمة في المجتمع التشادي ومن هذه القبائل: أولاد جنوب، النجعة، أولاد ذيب، أولاد زيد، أبوجلول .
اقرأ المزيد- هذه القبائل لا تتحدث غير العربية، لأنها ظلت تعيش في البادية ولم تختلط اجتماعياً بسواها من القبائل العربية، حتى إن أبناء هذه القبائل الذين يكتسبون رطانات اللهجات الإفريقية بسبب اختلاطهم بالمدن، تُوجّه إليهم انتقادات شديدة من أقساها اتهامهم بالتخلي عن أصالتهم العربية .
اقرأ المزيديجب أن أشير إلى أن التاريخ الثقافي والاجتماعي للقبائل العربية في تشاد لم يدوّن بصورة علمية حتى الآن، على رغم وجود كتابات متداولة لا تحيط بأبرز محاور ذلك التاريخ، وعن المرتكزات الثقافية التي وردت ويمكننا ذكر أقدم شاعر عربي تشادي معروف وهو إبراهيم الكانمي، عاش فترة من حياته في المغرب في عهد الخليفة يعقوب الموحدي، وتزوج امرأة مغربية في مراكش، ويبدو أن أحداً غمز في لونه الأسود فقال قصيدة يخاطب فيها زوجته منها: غيري عليكُن يا زهراءُ يصطبرُ لأن صبري على ذاك الهوى صَبِرُ لوني بلونك مُزدانٌ إذا اجتمعا كما يزين سوادَ المقلة الحَوَرُ فلا يسُؤكِ من الأغماد حالكها إن كان باطنها الصمصامة الذكَرُ ولا تزال قصائد هذا الشاعر متناثرة في الكتب التي أرخت للدولة الموحدية في المغرب العربي مثل كتب نفح الطيب للمقري، وعلى ألسنة الرواة العرب في تشاد، وإذا فتحت قاموس المحيط للفيروزأبادي وبحثت في كلمة كانم ستقرأ عبارة (كانم جنس من السودان والكانمي شاعر مشهور منهم)، وأشار إليه أيضاً ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان فقال : (وفي زماننا هذا شاعر مشهور في مراكش مشهود له بالإجادة)
اقرأ المزيدالشيخ عبدالحق السنوني الذي استشهد في مجزرة ارتكبها الاستعمار الفرنسي سنة 1919 يُطلق عليها في التاريخ التشادي مجزرة الكُبكُب، والكُبكُب هو الساطور، الأداة التي استعملها جنود المستعمر في قتل الأهالي، وكان أغلبهم من المتعلمين والعلماء العرب المسلمين، وكان مبرر الإدارة الاستعمارية في قتلهم هو قوله إنهم أفتوا آنذاك بأن كل من قتل نصرانياً على أرض تشاد يدخل الجنة، غير أن السبب الحقيقي هو الرغبة في طمس الهوية العربية الإسلامية في تشاد بعدما رفض علماء الاسلام والأهالي دخول أبنائهم المدارس الفرنسية خوفاً من تنصيرهم وفرنستهم . بعض شعراء تشاد العرب وأهم أعمالهم الأدبية؟ - أبدأ بذكر الشيخ عبدالحق السنوني الذي يعتبر من مرتكزات الشعر الكلاسيكي في تشاد، كما يعتبر من تلاميذ مدرسة البارودي الشعرية في بنائه للقصيدة وربط مضمونها بقيم المجتمع وتاريخه وصراعه من أجل البقاء، أذكر له قصيدة في مدح الرسول، صلى الله عليه وسلم، بدأها بالغزل: سائلْ منازل بشَّهْ عن جيراني واروِ الحديث لهم عن الجدران وامرُرْ على السوق القديم وقفْ بنا نبكي ليالي يوسف السلطان والعيش أرغدُ بين أنسِ غزائل وأسود غاب لي من الخِلان من كل برقاويَّةٍ في خَلقها حُسنٌ وليست من ذوي الإحسان قد حلّلتْ سفكَ الدماء بسحرها وقضتْ به جُورا على الشبّان وكان لهذا الشاعر شاعر شقيق له هو عبدالرحيم السنوني هاجر إلى دارفور في السودان وأسس معهداً للتعليم في منطقة نياله، هروباً من ضغوط الإدارة الاستعمارية في العقد الثاني من القرن الماضي، وهرب حينها عدد كبير من المتعلمين والشعراء، وفي نهاية الثلاثينات تخرج الشاعر عوليش عوُوضة من الأزهر في القاهرة، وأسس في منطقة بشه بتشاد معهدا علمياً على النظام الأزهري يطلق اسم معهد أمسيوقوه، كلمة أمسيوقوه هي تصغير لكلمة سوق في اللهجة التشادية العربية، وقد كان هذا المعهد منطلقاً لنهضة دينية وثقافية عربية في تشاد . وممن تخرجوا في هذا المعهد الشعراء أحمد عبدالله بركة، وعبدالله يونس المجبري، وحسين ابوالذهب، وفي مرحلة مقبلة تخرج الشاعر عباس محمد عبدالواحد، صاحب أول ديوان عربي تشادي مطبوع سنة 1981 بعنوان الملامح في بغداد حيث كان الشاعر يزاول دراسته، والجميل أن مقدمة هذا الديوان كتبها الشاعر الكبير عبدالوهاب البياتي . وظهر بعد ذلك رعيل جديد من الشعراء العرب التشاديين منهم: عيسى عبدالله، والدكتور محمد عمر الفال، وعبدالواحد محسن السنوسي، وعبدالقادر محمد أبه، وغيرهم .
اقرأ المزيد- أغلبية الشعراء يكتبون القصيدة العمودية، والقلة يكتبون قصيدة التفعيلة، ويوجد من الشعراء من يزاوج بين الأسلوبين، ومن الشعراء الذين يكتبون على أسلوب التفعيلة الشاعر عيسى عبدالله صاحب اول قصيدة في الأدب العربي التشادي تثور على النمط العمودي في الثمانينات، وأحمد عبدالرحمن إسماعيل، وعبدالواحد حسن السنوسي، وشخصيا لي قصائد تفعيلية .
اقرأ المزيد- الشعراء التشاديون محرومون من مثل هذه المنابر، لذلك تعتبر الأمسيات الشعرية هي الوسيلة الأكثر انتشاراً لنشر شعرهم، وعلى رغم وجود مطبوعات إعلامية عربية إلا أنها محدودة الانتشار ومرتبكة الصدور لأسباب مالية، ويمكن القول إن أقدم جريدة عربية تشادية هي كوكب تشاد التي كانت تصدر في المرحلة الاستعمارية، وتلتها جرائد عربية أخرى أسسها مثقفون تشاديون فمن أقدمها: البحيرة، ونجامينا اليوم، والحوار، وصوت الجماهير، ونجامينا الجديدة، والأضواء، والأيام .
اقرأ المزيدهل هذه الجرائد كلها يومية، وهل لا تزال تصدر حتى اليوم؟ - هي جرائد متعثرة لا تصدر بصورة متعثرة، واليومية منها تضطر إلى الصدور مرة في الأسبوع لضعف إمكاناتها المالية . هل تصدر كل هذه الجرائد في العاصمة نجامينا؟ - نعم، تصدر كلها في نجامينا باعتبارها الحاضرة الثقافية الراهنة، وقد كانت مدينة أبشه هي أهم حاضرة ثقافية عربية في تشاد ، بل إنها كانت معقلاً للعروبة والإسلام، يزورها ويقيم فيها عدد كبير من الشعراء ورجال علوم الشريعة واللغة العربية، بحيث لم يكن صيت الشاعر ينتشر إلا إذا اعترفت بقدراته المحافل الثقافية والعلمية في هذه المدينة العريقة، أما الآن فإن العاصمة السياسية هي نفسها العاصمة الثقافية والعلمية
اقرأ المزيد- لقد أعادت الأيادي الكريمة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة الألق الثقافي القديم لأبشة بعد بناء مجموعة من المؤسسات التعليمية والثقافية التي تحولت الآن إلى منارات للحوار الثقافي والإبداع الأدبي، مثل ثانوية الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان، وثانوية الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، لكن المنارات الكبرى هي كليات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان للآداب والعلوم الإنسانية والحقوق والاقتصاد والعلوم الطبيعية، ولا يمكن أنسى معهد الشارقة الجامعي للعلوم الطبية والتقنية، ولا أنسى أيضاً أن جامعة الشارقة تحتضن سنوياً الطلاب الأربعة الأوائل في الثانوية العامة، في المدارس العربية في تشاد بتوجيه كريم من حكومة الشارقة، وقد أصبح هؤلاء الخريجون على مدار السنوات من كوادر الدولة في بلدي . وقد استقبل التشاديون هذه الأيادي الممدودة بالخير بالاعتزاز والشكر والتقدير لدولة الإمارات العربية المتحدة، خاصة أنها ارتفعت في الموقع نفسه الذي وقعت فيه مجزرة علماء تشاد في ،1919 وهي بذلك تسهم في عودة تشاد إلى أمتها العربية الإسلامية .
اقرأ المزيد- إن المساعي الحميدة التي قام بها الرئيس إدريس ديبي إثنو رئيس جمهورية تشاد من أجل استعادة الهوية الوطنية لشعب تشاد تلقى الترحيب في الأوساط السياسية والثقافية والمجتمعية، ومن أبرز ذلك ترسيمه للغة العربية لغة وطنية لجمهورية تشاد رغم المصاعب التي واجهت ذلك على مستوى الوظائف الإدارية، وبذله جهوداً كبيرة من أجل أن ترجع تشاد إلى هويتها العربية الإسلامية المعروفة عبر التاريخ . ومن حقنا نحن أهل تشاد أن نفتخر برئيسنا إدريس ديبي إثنو لأنه أول رئيس تشادي يلقي خطابا باللغة العربية في مؤتمر علمي احتضنته إحدى قاعات وزارة الخارجية، ولأنه رجل مثقف تزخر ذاكرته بالثقافة العربية القديمة والحديثة . وفي نهاية هذه المقالة أتوجه بالشكر الى جميع زملائي و والى الداعم الاول للمبادرة لأخ يعقوب تيجاني والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته